16 يناير . 3 دقائق قراءة . 605
أجمل مافي بيروت قدرتها العجائبية على جمع كل المتناقضات في وعاء واحد حتى وإن أشعرتك بالغرابة غير أنها تظل تمسك بكل يد أو هكذا يبدو لمن تحب ويحبها على الأقل.
في بيروت.. عاديٌ مثلاً أن تصادف أدونيس في شارع الحمرا صباحاً يشتري جريدتي النهار والشرق الأوسط من الكشك البسيط.
أن تدخل المقهى لتصادف سنان أنطون يشرب القهوة ويقرأ للرواد حكاية مريم التي تكاد تشعر بها تبتسم من كرسيها الخشبي في زاوية مقهى "تاء مربوطة".
في بيروت.. ليس غريباً أن توقف التاكسي وتسأله إيصالك لمنزل فيروز في زقاق البلاط وإن كان بعضهم يجهل المكان.
أن تمشي في شارع كتب فيه نزار مرثية قلبه وروحه لبلقيس، أو تحصي ذات الخطى التي مشاها الماغوط يوماً على أرصفة المدينة مع السياب وأدونيس ويوسف الخال.
لازال هواء بيروت محملاً بخوفه وشغبه وشاعريته المفرطة..
هو أيضاً جاءها هارباً من دمشق..
في بيروت..
قد تجلس صدفة في زاوية مقهى فتحت قلبها يوماً لعتب محمود درويش وحكاياه عن البحر وريتا وفلسطين.
ستسمع صدى رصاصات خالد علوان في مقهى الويمبي وتمسح الغبار عن ذاكرة مبنى كان يوماً معقلاً لأهم مفكري العروبة ومثقفيها .
ستسألُ نفسك يومياً عن هويتك وتفتش أوراقك الرسمية وتحاكم أفكارك وأراءك ومعتقداتك كما لو كنت رجل أمن أو اختباراً ليوم الحساب.
أكلت الحرب المدينة، شلت روحها الشابة الوثابة للحياة حتى شاخت مبكراً.
٤ سنوات في لبنان، ثلاثٌ منها في شارع الحمرا ..
تنقلنا فيها بين ٣منازل لكل منها حكايته الخاصة، ليس بسبب مافيه بل بمن جاوره.
ليس مستغرباً مثلا ً أن نكتشف مؤخراً أن في الحي تسكن الروائية السورية لينا هويان الحسن.. يفصلنا شارع عن مستودع أحلامها.
ولا أمر يدعو للدهشة إن أخبرني صديقي عن أرقه وأحلامه المتعبة وهو يقرأ كوابيس بيروت لغادة السمان فمنزلها الذي عايشت فيه الحرب لازال ينبئ بهول ماجرى في حينها.
شارعان عن مكتب جريدة السفير ومثلها شمالاً نحو جريدة الأخبار ودقيقة من المشي نحو كشك الجرائد في الحي..
أعترف أنني لم أعد أقرأ كما السابق غير أن جريدة الصباح تزورنا كل صباح مذ دفع صديقي ثمن الاشتراك.
محزنٌ حالُ بيروت اليوم.. محزنٌ أكثر أن جيلنا لم يعايش صباها.
أمورٌ كثيرة تغيرت وأخرى لازالت على حالها أو فلنقل تصارع للحفاظ على هويتها.
أتعبتنا بيروت كما دمشق غير أنها منحتنا ولا زالت، الكثير من الحب والذكريات بحلوها ومرها.
للمنفى خُلقت بيروت.. لتصالح الأسماء الغريبة مع الوقت.
للوحدة.. أحاديث الليل وقصائد الدقيقة الأخيرة من كل عام عن البلاد.
للعلاقات العابرة.. لحُبٍ يحفر في خطوط الوجه والذاكرة.
لتناقض السمات.. اغتراب النفس وحرية التفكير.
للمنفى خُلقت بيروت.. عاصمة لشتات جوازات السفر وختم النقطة الحدودية.
للحالمين خُلقت.. فضاءً خصباً وسجناً في الوقت ذاته.
في بيروت..
ستختبر قلبك كما لم تفعل من قبل كما لو أنها عود ثقاب في علبة الكبريت.
..
بيروت ١٥ كانون الثاني ٢٠٢١
12 فبراير . 7 دقائق قراءة